عن صراعات المهاجرين وأبنائهم في كندا
للقصة التي رواها حسان، دلالات كبيرة. اضطر إلى مغادرة ألمانيا، بعد قضائه ثمانيَ سنوات فيها. والسبب أن مشرفة في المدرسة حيث تدرس ابنته - ذات الستة عشر ربيعاً - زارته في البيت وعرضت مشكلة ابنته، وأخبرته أنها انطوائية وليس لها إلا صداقات محدودة مع فتيات، ولا تختلط بزملائها الفتيان على الإطلاق. "ثمة مشكلة ما ويجب أن نتعاون في حلّها"، قالت له. أخافه ذلك، فالأولاد والفتيات على أبواب المراهقة ويخشى من ضياعهم في مجتمع غربي. عاد إلى سوريا وأقام سنوات قليلة قبل أن يضطرّ مرغماً مرةً أخرى أن يهاجر إلى كندا بعد الزلزال السوري.
قلقٌ عميق يتعرض له عدد كبير من العرب والمسلمين في أوطانهم الجديدة ويعبّر عن نفسه بشكل جليّ. مبعث القلق هو صعوبة الاندماج في عمق وتفاصيل ثقافة أخرى، يعتقد كثيرون أنها تتصادم مع ثوابتهم الثقافية والفكرية والأخلاقية التي تربّوا عليها. هذه الهزة العميقة تحضر دائماً عبر "صور مرعبة" نمطية في كثير منها، مترسبة في أذهان الآباء والأمهات عن المجتمع الغربي، وتعبّر عن نفسها باستمرار من خلال تأنيب للذات على ما ارتكبوه بحق الأبناء لأنهم جاؤوا بهم إلى مهاوي "الانحراف".
لحيدر قصة أخرى. يفتخر بوجوده في مدينة هاملتون الكندية ويعتبر أنه حقق إنجازاً فريداً عندما جنّب سلام وصبا، طفليه الصغيرين، "مستنقعات" و"فايروسات" الفساد والطائفية والتعليم ذي المستوى المتدنّي في العراق. حيدر مقتنع أن لولديه مستقبلاً مشرقاً في كندا. برغم ذلك، يغصّ عندما يتذكّر أن عمر ابنته قارب الثامنة عشرة، وأنّها ستصبح مستقلة ولا "ولاية" له عليها. كما يقلقه أن ينجرف ابنه سلام إلى عالم المخدرات، الذي بدأ يغريه جرّاء مشاهداته الأفلام الهوليوودية
عيسى بريك، ابن مدينة درعا السورية، فرّ من ملاحقات النظام السوري قبل ثلاثين عاماً واستقرّ به المقام في مدينة مونتريال الكندية. لديه وعائلته التي لحقت به فيما بعد، قصص طريفة تلخّص صراعاً لن ينتهي بين جيل المهاجرين الأول وأبنائهم. "الموقف من السود" ربما يعطي فكرة واضحة عن الثقافة التي حملوها معهم، وكيف اصطدمت مع ثقافة جديدة مختلفة يدرسها الأبناء في المدارس والمعاهد والجامعات الكندية. قال عيسى: "ابني الصغير في الصف الخامس ولديه زميل بشرتة سوداء، حضر معه في أحد الأيام إلى البيت كأيّ طفلين يلعبان معاً، وبتلقائية وبدون حساب لأية تبعات صرخت به أمه: "ولك انت ما عندك رفقات غير السود؟". يتابع عيسى أنه وزوجته فوجئا برد ابنهما الغاضب وصراخه باللغة الفرنسية: "لماذا عندكم حساسية من السود؟ ليس كل البيض جيدين ولا كل السود سيئين".
هذا مثال رمزي ودرس بسيط وصارخ في "حقوق الانسان" يلقّنه طفل صغير لأبويه. لا تنتهي الدروس هنا، فأولاد عيسى بريك تربوا وتعلموا ونهلوا من الثقافة الكندية. يذكر عيسى قصة طريفة أخرى حدثت مع عائلته أثناء الانتخابات البلدية الأخيرة. يقول: "جاءنا أحد المرشحين إلى البيت وبدأ يحدّثنا عن برنامجه الانتخابي متمنّياً أن نصوّت له. في موعد الانتخابات أوصيت الأولاد، الذين يحق لهم التصويت، أن يدلوا بأصواتهم للرجل". لكن عيسى فوجئ في ما بعد بأن لا أحد منهم قد أعطى صوته الانتخابي لهذا المرشح، ولما عاتبهم بانزعاج، ردّت ابنته الصغرى: "ما كان عليك أن تعده بأصواتنا، أنت وفيت بوعدك وهذا حقك، نحن لم نعِد أحداً، هذه كندا وليست سوريا". هو درس في الديمقراطية يلقّنه الأبناء للآباء.
الصراعات مختلفة وكثيرة بين عالمين لكلّ منهما رموزه ومفاهيمه وقيمه، عالم حمله جيل المهاجرين الأول معه، وعالم جديد وجدوا أنفسهم فيه. من هذه التقابلات، تتولّد صراعات ليس بين أبناء العالمين فحسب، بل داخل الشخص نفسه، وضمن الأسرة الواحدة. فالفئات العمرية الصغيرة والشابة، من أبناء المهاجرين، لديها قابلية واستعداد أكبر للاندماج في الحياة والثقافة العامة ونظام التعليم ولديها القدرة على الانفتاح أكثر على وسائط الاتصال الاجتماعي وثورة المعلوماتية. من هنا تبدأ المعاناة ويبدأ صراع يشمل كل شيء، السلوك والعادات وأنماط التفكير والميول والاتجاهات، والكثير مما يعتقد الآباء أنها معايير أخلاقية صحيحة تقاس عليها سويّة السلوكيات.
عن هذا الواقع تقول عفراء الجلبي، المرأة التي أثارت جدلاً واسعاً بين مؤيد ومعارض عندما ألقت خطبة عيد الأضحى الماضي في مسجد النور في مدينة تورنتو الكندية، والمقيمة في كندا منذ أكثر من عقدين من الزمن: "هناك تحديات هوياتية تواجه الجيلين الأول والثاني. برغم أن الجيل الثاني يتأقلم في كثير من الأمور مع المجتمع الذي يولد فيه إلا أن صراعات عدة تولد في داخله. المجتمع الغربي قوي ويقدم منظومة معينة، ومجتمع المهاجرين المسلمين يقدم أيضاً منظومة فيها الكثير من الأمور الإيجابية وخاصة في الحيّز العائلي وفي العلاقات الاجتماعية. لكنّ الكثير من القيم الفكرية السياسية والعلمية العامة داخل الوسط العربي غير متصالحة مع العصر الحديث. هناك مثلاً خوف من أسئلة الأولاد وتشنّج تجاه ما يطرحونه أحياناً. وأنا لا ألوم الأهل، فهم غير مهيئين في بعض المجالات للإجابة عن أسئلة هي في حقيقتها فلسفية وثقافية تتكون داخل الطفل المسلم الذي يعيش في الغرب. بشكل عام نحن غير متصالحين مع العصر الذي نعيش فيه من النواحي الفكرية. ومن مظاهر انفصامنا أننا في جانب نرى أنه يمكننا استعمال الأدوات المادية والتكنولوجية وفي جانب آخر لا نتقبّل التطور الفكري الغربي برغم أننا لا نستطيع فصل الأخير بسهولة عن ظروف التطوّر العلمي والتكنولوجي".
ومن ناحية أخرى، ترى الجلبي أن "الآباء والأمهات يصدّرون إلى أبنائهم خللاً يستوطن فيهم جرّاء هذا الانفصام ويوقعون أبناءهم في تشوش واضطراب كبيرين". وتضرب مثلاً على ذلك "مفاهيم التطور وأصل الانسان" حيث الاستهزاء من قِبلهم بمنظومة علمية ضخمة يتعامل معها الطفل. والمسألة كما تراها هي "مواجهة بين تفكير علمي وتفكير تراثي" وهنا "لبّ المشكلة".
ستستمر الفروق الاجتماعية والثقافية والأخلاقية بين جيليْ المهاجرين الأول والثاني حتى تصل إلى مؤداها ونهاياتها المنطقية. وبعيداً عن الأحكام القيمية، سيكون الرهان معقوداً على الجيل الثاني إذ "ستزيد نسب المتعلمين والمثقفين بينهم، وهذا ما سيزيد احتمالات وإمكانات ظهور توجهات فكرية وعلمية رصينة ستعبّر عن نفسها في مجالات الانتاج الثقافي وفي مجالات ابداعية ونقدية"، تقول الجلبي بتفاؤل
0 التعليقات: